أولاً: دعونا نتّفق أني لا أقصد بالحبّ هنا ـ كعادتي ـ معناه الواسع فقط، بل كل الاحتمالات والمعاني الممكنة لهذه الكلمة.
كلّ منا يرى أن بين جنبيه حبّاً ليس له نظير وأنه يحبّ كما لم يحبّ أحد مثله قبله أبداً، ولو استحال حبّه ماء فأراقه لأغرق من في الأرض جميعاً.. وأن هذا الحبّ " أكسجين، بدونه تذبل الأرواح"..
أعتقد أنكم متفقون معي حتى الآن..
حسناً.. لننظر إلى ذلك من زاوية أخرى مختلفة قليلاً..
اسألوا أنفسكم سؤالاً واحداً: كم مرة أحببنا بهذا العمق وقطعنا عهداً على أنفسنا أن لا نستسلم لما يبدد حبّنا وأننا سنبذل كل شيء مقابل استمراره حتى الرمق الأخير من حياتنا، ثم ذُهلنا بزواله يوماً فكان أثراً بعد عين؟!
هل سبق وبحثتم عن سبب الزوال؟ بينما في ذات الوقت يدوم حبّ آخر فلا يقطعه موت أو فراق؟
ثمة أمر غاب عنا كثيراً..
ولتبسيط الفكرة ارسموا خطّاً مستقيماً بطول ٣٠ سم على سبيل المثال، ثم ضعوا في بدايته نقطة.
النقطة هذه تعني عمر الدنيا منذ بدايتها وحتى قيام الساعة.. والخط هو الخلود.. والنقطة بداية حتمية لما يليها..
تخيلوا أن كل ما كُتب عن الحبّ حلاوته ومرارته؛ وصل وفراق، هجر وعناق … إلى آخر ما كُتب وسيُكتب، يظلّ جميعه في هذه النقطة لا يجاوزها!
كم ستكون نسبة حبّك العميق الذي ليس له نظير بالنسبة إلى عمر الدنيا؟
لو دام هذا الحبّ عشرون سنة أو خمسون أو حتى مائة.. ماذا بعد ذلك؟ هل تثق باستمراريته بعد الحياة؟ هل سيستمر بطول الخط الذي رسمته قبل قليل؟ هل سيبقى شيء منه في نفسك بعد أن يقول كل امريء: " نفسي نفسي"؟
الأمر ليس مستحيلاً.. ربما سيبقى ولكن كيف؟
الحبّ الحقيقي يا صديقي أسمى من الفناء والزوال.. هو الذي لا يتغير بل يزيده كرّ الأيام وفرّها ثباتاً ونماءاً وجمالاً..
هو الذي قال عنه الرافعي رحمه الله: " الحب يجعل الناس، أعلاهم وأسفلهم، صاعدين أبداً من أسفل إلى أعلى"
هو الذي بُني على أصل ثابت؛ خارج هذه الدنيا لفنائها، ولأن ما بُني على متغير زال بزوال السبب..
هو الذي وُلِد بعيداً عن المصالح على اختلافها وتباينها..
واعلم.. أنك إن أحببتَ لتأخذ، لم تعرف الحب ولم تذق من حلاوته شيئاً..
الحبّ عطاء يا صديقي.. عطاء دائم..
عطاء يعمُر هذه الدنيا ويتجاوزها فيجعلكَ تفكر أن تهدي من أحببته أجراً لا ينقطع بعد موته.. أن تدّخر له عملاً صالحاً في السرّ كي لا تتخلى عنه يوم لا ينفع مال ولا بنون..
ومن المقبول أن يرى بعضكم الأمر أتفه من أن نلقي له بالاً لأن الحب وسيلة لتخدير الروح وإمتاعها في دنيا جُبلت على كدر حتى تنقضي وبعد ذلك سيكون في الجنة ـ بعد رحمة الله لنا ـ نعيم وسرور ينسينا الحبّ وأمره!
ولو كان الأمر كذلك يا أحبتي لما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من أحبّ..!
الآن.. عودوا إلى قلوبكم وما تكنّه من لذيذ المشاعر.. هل حبّكم ثابت أم متغير؟
نرمين :)
الجمعة
١٥ ـ ذو الحجة ـ ١٤٣٥ هـ
.